خلال تنظيم فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان الملحونوالأغنية الوطنية المنظم في الفترة الممتدة من 22 إلى 26 أكتوبر 2024، صدر للأستاذ الباحث أنس الملحوني كتابيوثق لسيرة الفنان المبدع أحمد الباهري – احميدة، وقدجاء الكتاب موسوما ب: “احميدة الباهري … رحلةنغم” فارس من ذاكرة الأغنية الغيوانية – سيرةفنية 1972 – 2016 ، الكتاب من القطع المتوسط، جاءفي 288 صفحة، وقد عملت المطبعة الوطنية بمراكش علىإخراجه، وتفضل الدكتور محمد الكنيديري، رئيس جمعيةالأطلس الكبير بطبعه، مساهمة منه في تثمين فكرةالتوثيق لأعلام مدينة مراكش.
الأستاذ الدكتور عبد العزيز ابايا يقدم قراءة في هذاالكتاب جاءت كما يلي:
في المقدمة
قيل قديما: “من ورخ لمؤمن فكأنما أحياه“، هذه العبارةالتي رقاها غير واحد من المحدثين إلى مرتبة الأثر النبوي، تتضمن معنى عميقا يتجاوز مجرد سرد نمطي لأحداثعاشها رجل أو امرأة في حقبة تاريخية معينة، بل إلىالتنبيه على تراث غني متراكم عبر التاريخ شكلته أياديرجال في مختلف المجالات لتبني وطنا وهوية أصيلةسارت مسير التقديس.
إن التعريف بالرجال وبالشخصيات وإبراز تراثهم، هوفي الحقيقة تعرف بشكل جزئي على مجتمع وهويةومقدسات هي سمات صميمة للوطن بكل تفاصيله، ومنهنا أمكن القول إن التعرف على الشخصيات هو منصميم التعرف على الوطن، ومن هذا المنطلق بالذاتتنبعث فكرة هذا الكتاب الذي ألفه الأستاذ والإعلامي الفذأنس الملحوني، متناولا شخصية الفنان المتعدد أحمدالباهري ذي المهارات الفنية المتنوعة والذي كانت بصماتهخفية في العديد من البرامج الفنية التي كنا نتابعها منذالصغر، فهو عازف متقن على العديد من الآلات الوترية، مثل البانجو والقيثارة، والمندولين، والعود، والبزق، كما أنفي مساره الفني أكثر من أربعين عملا غنائيا، ومشاركةفي إنتاج موسيقى ثلاثة سيتكومات، والعديد منالوصلات الإشهارية، وموسيقى لبعض الأفلامالسينمائية.
وعلى الرغم من مواهبه الفنية المتعددة، ومشاركتهالفعالة في إنشاء العديد من الفرق الغنائية في إطار مابات يسمى بالظاهرة الغيوانية، فقد لاحظ الأستاذ أنسالملحوني أن “كل إصدارات الرجل لم تُوثق، ولميعمل – حاليا – على مشاركتها على نطاق واسعمع جمهور المولعين والشباب الذي لازال يعضبالنواجذ على فلسفة هذه المجموعات الغنائية“. وإلى جانب المشاركة والإشعاع الفني، لاحظ الباحثأنس الملحوني أيضا أن الكتابة والتوثيق عن هذهالشخصية منعدمة تماما، وهو ما أثار استغرابه وتأسفهفي آن واحد.
وكعادته في جملة أعماله التوثيقية، يتحرى الأستاذأنس الملحوني موقع الاقتراب التام من موضوعه، ويحددبدقة الأسئلة التي يشتغل عليها، ويتقصى مناطاتالتناول فيها، فجاء هذا المؤَلف التوثيقي العالي الدقة عنشخصية مبدعة تستحق الاهتمام؛ ولعل دقة الموضوع، ومصداقية المعلومات المعلنة فيه، زيادة على جِدته، كانتمن أهم سمات الكتابة لدى الباحث الملحوني في هذاالمؤلف.
وإذا كانت المقدمة كعتبة بنائية تنشد التعريفبالموضوع المراد التطرق إليه، وأهمية البحث العلمي فيه، وعن الأسباب الموضوعية الدافعة إلى اختيار الموضوع، فإن المؤلِّف آثر – عن طواعية – وضع عتبة ذاتية يمتزجفيها الوجدان بعلاقة الصداقة التي تجتمع المؤلِّفوالمؤلَّف له، ومن هنا ابتدأت المقدمة بتبيان العلاقة التيتجمع بين المؤلِّف والفنان أحمد الباهري منذ عشرينياتهذا القرن من خلال حفل فني أبهر فيه “احميدة” متابعيهبحسن أدائه على آلة البانجو، وبتعدد الأدوار الفنية التيأداها ونسقها، وما لبثت هذه العلاقة أن تطورت بعداستضافة الأستاذ أنس الملحوني للمترجَم له في مجموعةمن البرامج الإذاعية ابتداء ببرنامج “نَادِي الفُنُون” في الفترة الممتدة بين عامي 2016 – 2017، مرورا بـ“لَمَّة لَحْبَابْ“، وانتهاء بالبرنامج المتميز: “نَبشٌ فِيالذَّاكِرَة” المذاع سنة 2019؛ ومما عمق العلاقة بينالأستاذين الملحوني والباهري، تلك الجلسات الخاصةالتي جمعتهما لملء بعض البياضات التوثيقية ليس فقطفي حياة الفنان الباهري، لكن أيضا في مسيرة ومآلاتعدد من الظواهر التي كانت رائجة في الساحة الثقافيةوالفنية في مغرب السبعينيات والثمانينيات وحتىالتسعينيات، وهو ما كان يعطي لتلك الجلسات قيمتهاالعلمية والتوثيقية. إن تنوع اللقاءات بمعية المحتفى بهأتاحت للمؤلف الاحتكاك أكثر بشخصية المتَرجم له، ومنخلال ذلك الإجابة على عدد من التساؤلات والمغالطاتالتي كانت رائجة في سماء الفن في فترة معينة، ولعلمنهج المجالسة والتثبت من الحوادث والآراء من بين مايتميز به المؤلف أنس الملحوني، وقد لاحظت ذلك من خلالطريقة جمعه للمعلومات سواء في برامجه الإذاعية، أو منخلال مشاركاته البحثية المتعددة.
حرص أنس الملحوني على التنصيص على غزارةأعمال الأستاذ أحمد الباهري وتنوعها، وهو بذلك يحيلمن طرف خفي إلى إحدى أركان الخطاب المقدماتي وهوالإشارة إلى أهمية البحث العلمي للموضوع، والأمر يتعلقهنا بعمل تأسيسي حول شخصية لم يتم التطرق إليهاوإلى أعمالها من قبل، ومن هنا أهمية العمل التوثيقيالمنجز. من جهة أخرى، نسجل بشكل إيجابي وضعالمحتفى به في هذا المؤَلَّف ضمن مجراه الصحيح، حيثتبلورت أغلب أعماله الفنية في سياق ما عُرف ب: “الظاهرة الغيوانية“.
التوثيق والمنهج
لقد سبق لي القول – غير ما مرة – إن ما يقوم بهالأستاذ أنس الملحوني وأمثاله من الباحثين الجادين فيمجال البحث التراثي الموسيقي خاصة، من مجهوداتعلمية في تقريب بعض مظاهرنا الحضارية إلى المستمعالمعاصر، يسعى لسد الفراغ وردم الهوة التي تفصل بينشبابنا اليوم وبين تراثهم بحجاب الاغتراب، وغلبة الأنماطالفكرية والفنية الآتية من الشرق والغرب، وهو بذلكيساهم في نقل الأنماط الموسيقية التراثية المغربية لأجيالجديدة لم تعش هذا التراث، ولم تتذوقه، بل يمكن أن تمجهلاعتيادها على أنماط مغايرة.
وإذا كان الباحث الملحوني قد دق عددا من أبوابالبحث العلمي ومجالاته للكشف عن مجموعة من الظواهرالفنية والثقافية التي لا يتم غالبا الالتفات إليها، أوالاهتمام بها إما جهلا أو تجهيلا، فإن مساهمته في هذاالكتاب عن شخصية الفنان والمبدع أحمد الباهري تقتحممجالين غنيين هما: مجال البيوغرافيا، والتوثيق المناقبيالسياقي.
يبدو الأستاذ أحمد الباهري من خلال عمل الأستاذأنس الملحوني شخصية فنية غنية بالإبداع والمساهماتفي عدد غير يسير من المجالات الفنية، بما في ذلكالعزف، والغناء، والتلحين، والتأليف الموسيقي، والإبداعالشعري. وهي محاولة لتوثيق وإبراز مسيرته الفنيةوإنجازاته، لا سيما في ظل الندرة الواضحة للتوثيقالموثوق، والمتاح حول هذه الشخصية. كما يظهر، الأستاذأحمد صاحب مهارة فذة ونادرة في اللعب على العديد منالآلات الموسيقية، وعمقًا في معرفة الظاهرة الغيوانية، والتي تجسد حالة ثقافية وفنية فريدة في المغرب.
وإلى جانب مهاراته الفنية المتعددة، وتجربتهالإبداعية الفذة، بدا لنا المُترجَم له الفنان أحمد الباهري، صاحب تصور ثقافي ميزه عن الكثير من أقرانه، جمع بينالحفاظ على التراث المغربي، والابتكار في مجالاتمختلفة تأرجحت بين الكتابة الشعرية والموسيقيةللمجموعات الغنائية الغيوانية، وتلحين مقدمات بعضالسيتكومات، والمساهمة في موسيقى بعض الأفلامالسينمائية، وكتابة وتلحين بعض الوصلات الإشهارية؛ مما يشير إلى أهمية دراسة شخصية تعتبر شاهد عيانعلى مرحلة فنية وثقافية عاشها جيل سبعينيات القرنالماضي حيث لا زال صداها يتردد فينا حتى يوم الناسهذا. إننا أمام مرجع ثقافي وفني اعتمد عليه المؤلف فيإعداد بعض الحلقات الإذاعية المرتبطة بالظاهرة الغيوانيةوغيرها من الظواهر الفنية، ومن هنا تكمن أهمية توثيقهذه المسيرة، ومن هنا – أيضا – تأتي أهمية المجهودالمتميز الذي بذله الأستاذ أنس الملحوني وهو يعزز منقيمة التوثيق كوسيلة لحفظ ذاكرة فنية غنية بالوهج الفني، ما أحوجنا إلى التعرف على أعلامها وسيرهم الإبداعية.
من بين أحلى لحظات الكتاب هو الدراسة الغنية التييقدمها الأستاذ أنس الملحوني حول ظاهرة المجموعاتالغنائية الغيوانية في المغرب، مع تركيز خاص على “ناسالغيوان” و” جيل جيلالة“، ويقدم هذا العمل تحليلاً عميقًا للجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية التيأثرت في تشكيل هذه الظاهرة، إضافة إلى علاقتها بفنالملحون والمسرح.
هذا العمل يمثل جهدًا مهمًا في توثيق وتحليل واحدةمن أبرز الظواهر الفنية في المغرب خلال القرن العشرين، فالأمر هنا لا يتعلق بمجرد مجموعات غنائية فحسب، بلبتعبير عن الوجدان الجماعي المغربي، ومرآة تعكسالتغيرات والتحولات التي عرفها المجتمع المغربي في فترةما بعد الاستقلال، وأيضا صدى لثقافة شعبية كانت قوةمحركة لوعي جماعي جديد. وقد حرص الأستاذ أنسالملحوني على تقديم خلفية تاريخية غنية تربط بين ظهورهذه المجموعات وبين التحولات الاجتماعية والسياسية فيالمغرب، ليوضح العلاقة التي تربط المجموعات الغيوانيةبالمسرح والملحون من خلال تسليط الضوء على الكيفياتالتي تمازجت بها هذه الفنون وتداخلت لتخلق تعبيراتفنية جديدة، فالمسرح والملحون كانا رافدين أساسيين فيتطور الأغنية الغيوانية، مما أعطاها بعدًا أدبيًا وجماليًاأعمق.
يعرض المؤلف – أيضا – في إطار دراسته للظاهرةالغيوانية تحليلاً عميقًا للنصوص الغنائية، واستخدامالآلات الموسيقية التقليدية، مما يعزز فهمنا لطبيعة الإبداعالفني لهذه المجموعات وكيفية تفاعلها مع التراثالموسيقي المغربي، ومما يعزز الوعي بالحاجة الملحةلتوثيق هذا التراث الغني وحفظه للأجيال القادمة، خاصةفي ظل قلة المصادر الموثوقة المتاحة. فالتوثيق هنا ليسفقط للحفاظ على الذاكرة الثقافية، ولكن أيضًا لفهمالتحولات التي شهدها المجتمع المغربي من خلال الفن.
وجماع القول، إن الظاهرة الغيوانية في المغرب كماأكد على ذلك الأستاذ الملحوني تمثل حركة فنية وثقافيةبارزة نشأت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات منالقرن الماضي، وهي جزء لا يتجزأ من التعبير الفنيالمغربي، حيث ظهرت كرد فعل على التحولات الاجتماعيةوالسياسية التي عرفها المغرب بعد الاستقلال. أسهمتهذه الظاهرة في رسم معالم جديدة للموسيقى المغربيةالمعاصرة، حيث مزجت بين التراث الشعبي ومتطلباتالتعبير المرحلي. وقد حاول المؤلف مقاربة هذه الظاهرةمن خلال السياق الخاص لشخصية أحمد الباهري، وكذامن خلال السياق العام عبر التركيز على الجذور، والنشأة، والوقوف على العناصر المميزة.
عرض أنس الملحوني شخصية الباهري كشخصيةفنية لها تأثير كبير على الموسيقى المغربية في ارتباطهابمخرجات الموسيقى الغيوانية على وجه التحديد. وقد بدأعرضه حول الباهري بالتركيز على الجانب الشخصيوالفني للعلاقة بينهما، حيث تعرف الملحوني على الباهريفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وذلك خلالتنظيم أمسيات فنية في مراكش. وقد أثار إعجابه الأداءالراقي للباهري على آلة البانجو، وقدرته على التفاعلبشكل مميز خلال تلك الفعاليات. ورغم أن الباهري كانيُظهر شخصية انطوائية وقليلة الكلام، إلا أن الملحونياستطاع أن يكتشف فيه طاقة فنية هائلة، ومهاراتموسيقية فريدة، جعلته شخصية بارزة في تطور سيرورةالإبداعات الفنية “الغيوانية“.
تعمق التعاون بين الملحوني والباهري عندما استضافهمرات عديدة على أثير إذاعة مراكش للحديث عن“الظاهرة الغيوانية“. لقد منحت هذه اللقاءات الإذاعيةفرصا ثمينة لتعرف الملحوني عن قرب على فكر الباهريالموسيقي والشعري، ورؤيته الفنية. قدم الملحوني الباهريكمرجع أساس للحديث عن المجموعات الغنائية“الغيوانية” الهوى التي انطلقت مع “الغيوان” و“جيلالة” وما تلاهما من مجموعات، أو المجموعات التيساهم في تأسيسها أو أشرف عليها وكانت من بناتأفكاره مثل: “طيور الغربة“، و“لمشاهب“، و“لَجوادْ“، و“ابّْنات الغيوان“، و“جِيل جَانا“، وماشابه؛ معتمدا عليه في إعداد بعض الحلقات الإذاعيةالتي تناولت موضوع “الظَّاهرة الغِيوانية“، خصوصاً في ظل نقص المصادر الموثوقة المتاحة. كما أوضحالملحوني أن الباهري يتمتع بمهارات استثنائية في العزفوالغناء والتلحين والتأليف الموسيقي والإبداع الشعري ممايجعله من بين الشخصيات الفنية المحورية التي لا يمكنتجاهلها في مجال التوثيق للمجموعات الغنائية المغربية.
تمثل الظاهرة الغيوانية حركة موسيقية مغربية نشأتفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي جزء منالتراث الفني الشعبي الذي رسخ وجوده في الوجدانالمغربي بعمق. ومن أبرز مقومات هذه الظاهرة التيجعلتها مميزة، وذات تأثير كبير على الساحة الموسيقيةالمغربية، نشير إلى ما يلي:
الجذور التراثية: استلهمت الظاهرة الغيوانيةعناصرها من التراث الموسيقي المغربي الشعبي، مثل فنالملحون، وكذا مستعملات بعض الطرق الصوفية الشعبيةالمغربية من قبيل الموسيقى الكناوية، والعيساوية، والحمدوشية، والجيلانية، وما شابه. لقد كانت هذه الأنماطالموسيقية حاضرة بشكل واضح في أداء الفرق الغيوانيةكـ: “ناس الغيوان” و“جيل جيلالة“، مما أضفى علىأعمالهم طابعاً شعبياً تقليدياً مع لمسة عصرية.
الآلات الموسيقية والمضامين المُتغنى بها: وفيذات السياق، فإن جوانب التوسل بالآلات الموسيقيةالتقليدية، ساهمت هي الأخرى في إضافة مسحة شعبيةأصيلة على أداء تلك المجموعات، فآلة “الهراز” كان يحيلعلى “احمادشة“، وآلة “الدعدوع” يحيل على “هداوة” و“جيلالة“، وآلة “الطبيلات” تحيل على “عيساوة“، وآلة“الهجهوج” تحيل على “اكناوة“، … إنها آلات مغربيةعريقة أحالنا طابع أصواتها بمعية المجموعات الغيوانيةعلى الأجواء الروحية التي ميزت العديد من الطرقالصوفية الشعبية، فكانت أصالة تلك الآلات التقليدية منأصالة تلك المجموعات، مساهمة في تشكيل هويتها الفنيةوالموسيقية.
وفي جانب آخر، استطاعت هذه الفرق أن تكتسبشهرة واسعة بفضل تركيزها على القضايا الاجتماعيةالملحة، حيث كان الفنانون يسعون جاهدين لتسليطالضوء على قضايا العدالة الاجتماعية، الفقر، والحرية، معبرين عن معاناة الفئات المهمشة في القرن الماضي، مما يدل على طموحهم إلى حياة أفضل.
تناولت أغانيهم التحديات اليومية التي يواجههاالمجتمع، مما ساهم في تعزيز الالتزام بقضايا اجتماعيةهامة. وقد تجلت هذه المواضيع في الأغاني التي عكستالرغبة في مستقبلٍ أفضل، وسط التحديات الديمقراطيةالتي تعاني منها العديد من شرائح المجتمع المغربي.
كما يمكن اعتبار تنوع الألوان والأدوات الموسيقيةوتعدد الأنماط النصية ضمن أعمال المجموعات الغيوانيةوسيلةً لتسليط الضوء على الأغاني التي تعبر عن واقعالمجتمع، مع التركيز على مشاهد معبرة عن العنفوالاستبعاد الاجتماعي الذي يُعتبر عائقًا أمام التقدم.
بفضل مهاراته المتعددة في التأليف والعزف، وقدرتهالفائقة على استخدام الموسيقى كوسيلة للتعبير عنالقضايا الاجتماعية والثقافية في المغرب، أسهم أحمدالباهري بشكل بارز في إثراء التراث الموسيقي المغربيمن خلال عدة مجالات:
المهارات الموسيقية: كان أحمد الباهري فنانًاموسيقيًا شاملًا، يتجاوز كونه عازفًا عاديًا. لقد أظهرموهبة استثنائية في تأليف الموسيقى وعزف مجموعةمتنوعة من الآلات مثل البانجو، والعود، والمندولين، والبزق، مما أضفى غنىً وعمقًا على أعماله بمعية الكثير منالفرق الغيوانية مثل: “لمشاهب“، و“لجواد“، و“ابناتالغيوان“، و“أهل الحال” … ساهم هذا التنوع علىمستوى الأداء في توسيع قاعدة جمهورهم، مما جعلالموسيقى الغيوانية تتميز عن غيرها.
المشاركة في تلحين وتأليف موسيقى لفائدةأعمال للسينما والتلفزيون: لم يقتصر إسهامالباهري على الفرق الموسيقية فحسب، بل اتجه أيضًالتلحين الموسيقى التصويرية لبعض الأفلام المغربيةوالبرامج التلفزيونية. لم يكن هذا العمل مجرد وسيلةلتعزيز تأثير الموسيقى الغيوانية، بل أسهم أيضًا فيتسليط الضوء على التراث الموسيقي المغربي عبر وسائلالإعلام الحديثة، مما زاد من وجوده في الساحة الفنيةعلى المستويين الوطني والدولي خصوصا عندما فازتبعض الوصلات الإشهارية التي أشرف عليها نصوصاوألحانا بمعية الفنان عبد القادر مطاع على الجائزةالأولى سنة 1984 بمهرجان كان الدولي للإشهاربفرنسا.
القيادة الفنية: تجسد دور الباهري في كونه قائدًامبدعًا وملهمًا في عدة مشاريع فنية، مثل فرقة “طيورالغربة“، و“لجواد“، و“أوركسترا احميدة“، وذلك بفضلرؤيته الفنية الثاقبة، استطاع توجيه هذه الفرق نحوتحقيق نجاحات فنية ملحوظة، سواء من حيث الأداء أوتأليف وتلحين الأغاني، مما عزز من مكانة الموسيقىالغيوانية داخل المغرب وخارجه.
إحياء التراث الغيواني: لعب الباهري دورًا أساسيًافي الحفاظ على التراث الموسيقي الغيواني وإحيائه، حيث شارك في العديد من المهرجانات الوطنية والدوليةالمعنية بالتراث الغيواني. فلم يكن إسهامه مجرد مشاركةفنية، بل كان بمثابة توثيق حي لهذا التراث، وضماناستمراريته للأجيال القادمة.
يستند المنهج المتبع من لدن الأستاذ الملحوني علىمجموعة من الأدوات الأساسية تتضمن الحواراتالشخصية، التوثيق الدقيق، التسلسل الزمني، وتحليلالظاهرة الغيوانية:
الحوارات الشخصية: اعتمد الملحوني على الحواراتالممتدة التي أجراها مع الباهري، والتي تمت عبراللقاءات الإذاعية ووسائل أخرى. كانت هذه الحواراتبمثابة العمود الفقري للنص، حيث منحت الباهريالفرصة للتعبير عن تجربته الحياتية بأسلوب مباشر، مماأضاف بعدًا إنسانيًا وأصالة إلى المحتوى المكتوب. استخدم الملحوني تلك الحوارات لإظهار الرؤية الفنية التيعاشها الباهري وتطورها عبر السنوات.
التوثيق الدقيق: قام الملحوني بتوثيق مفصل لحياةالباهري ومساهماته الفنية. لم يكن النص مجرد سردللأحداث، بل كان غنيًا بالمعلومات حول المشاريع الفنيةالتي شارك فيها الباهري، مثل الأفلام، والسيتكومات، والمهرجانات الوطنية والدولية، التي عمل من خلالها علىإحياء التراث الغيواني، الشيء الذي يجعل من هاتهالسيرة الفنية لأحمد الباهري – احميدة مصدرًا ذا قيمةللباحثين والمهتمين بمجال الموسيقى الغيوانية.
التسلسل الزمني: التزم الملحوني بتقديم الأحداثبترتيب زمني منطقي، بدءًا من البدايات الفنية للباهري، ثم الانتقال إلى مراحل نضجه الفني، وإسهاماته المتنوعةفي تطوير الموسيقى الغيوانية، ساعد هذا الترتيب القارئفي متابعة تطور شخصية الباهري ومسيرته الفنيةبطريقة واضحة وسلسة.
تحليل الظاهرة الغيوانية: إضافة على ذلك، ركزالملحوني على شخصية الباهري عبر توثيقه لمساراتهالفنية والإبداعية في سياق الوقوف عند الكثير من المظاهرالعميقة للظاهرة الغيوانية في المغرب. وقد أوضح كيفكانت هذه الظاهرة تعبيرًا عن التحولات الاجتماعيةوالسياسية التي شهدها المغرب في السبعينيات، كما ركزعلى دورها في توحيد الشعب حول قضايا مثل العدالةالاجتماعية والحرية. اعتمد الملحوني في تحليله علىمقارنات مع حركات موسيقية مشابهة عالميًا، مما أضافعمقًا إضافيًا إلى الرؤية المطروحة.
ختاما
رغم مهاراته المتعددة، ومنسوب إبداعه العالي شعراوألحانا، وتنوع المشاريع الثقافية والفنية التي اشتغلعليها خلال أكثر من أربعين سنة، عاش الفنان أحمدالباهيري – احميدة زهدا إعلاميا، غير باحث عن الأضواءوالشهرة، ونعتقد بأن الأستاذ أنس الملحوني قد تمكن مننفض الغبار على معالم سيرة فنية متميزة، واضعا بينأيدينا وثيقة للتأمل والتدبر، تحمل اجتهادا على مستوىالشكل والمضمون.