
يشكل تعيين محمد سمير التازي كاتبا عاما لوزارة الداخلية محطة رمزية لتحول جوهري في تموقع هذه الوزارة ضمن النسق السياسي والمؤسساتي المغربي، فمنذ عقود، إرتبطت وزارة الداخلية بلغة السلطة والنظام الداخلي والضبط الإداري، لكنها اليوم تدخل طورا جديدا تعيد فيه ترتيب دورها،مستندة إلى منطق المال والحكامة المالية في تدبير الشأن الترابي.
وزارة الداخلية من وزارة وصاية إلى وزارة تدبير مالي ترابي
اختيار محمد سمير التازي، الذي راكم خبرات هامة داخل وزارة الاقتصاد والمالية وصندوق التجهيز الجماعي، يعكس إرادة الدولة في إسناد مفاتيح المرحلة المقبلة إلى شخصيات تقنية تفهم لغة الأرقام وتوازنات المالية العمومية، فالرجل يعد من العارفين بديناميات التمويل المحلي، وعمل لعقود على تمكين الجماعات الترابية من الولوج إلى التمويلات وتقييم المشاريع التنموية، وهذا التعيين لا يمكن فصله عن النقاش الدائر حول إصلاح الجبايات المحلية،والذي بلغ ذروته مع طرح مشروع القانون رقم 14.25، الذي يسعى إلى ترشيد النظام الجبائي الترابي وتوحيد مكوناته، بهدف تعزيز استقلالية الجماعات الترابية وتحقيق العدالة الجبائية والرفع من الميزانية العمومية .
تظهر البيانات الرسمية أن 80% من الجماعات تعتمد على تحويلات الدولة،في حين لا يتجاوز التحصيل الفعلي للرسوم المحلية في بعض المناطق 50% من المبالغ المستحقة، هذه الأرقام تكشف ضعفا هيكليا في تدبير المواردالذاتية، وهو ما دفع وزارة الداخلية إلى التركيز على إصلاح المنظومةالجبائية، وتحسين الأداء المالي للجماعات.
وفي هذا السياق، ينتظر من التازي أن يقود ورشا مزدوجا: من جهة، تفعيلالمقتضيات الجديدة للجبايات المحلية، ومن جهة أخرى، مرافقة الجماعاتوالجهات في تطوير قدراتها الجبائية والمالية، عبر التكوين، الرقمنة، والتمويل.
الجهوية المتقدمة: لغة المال أساس الورش الجهوي
المناظرة الوطنية الثانية حول الجهوية المتقدمة، المنعقدة في طنجة نهاية2024، أكدت أن الجهوية لن تفعل سياسيا ومؤسساتيا إلا بتوفير المواردالمالية والبشرية للجهات. وبالتالي، فإن مهام الكاتب العام لوزارة الداخلية اليوم لم تعد محصورة في الضبط الإداري، بل أصبحت تشمل مواكبة الجهات ماليا ومؤسساتيا.
منطق جديد لوزارة الداخليه : القوة الهادئة للمال
لم يعد مطلوبًا من وزارة الداخلية أن تمارس الوصاية فقط، بل أن تضبطالتوازنات المالية، تشرف على المشاريع، وترشد الإنفاق العمومي المحلي. وهوما يجعل من الكتابة العامة لوزارة الداخلية وظيفة استراتيجية تتجاوز التقنيات الإدارية إلى تخطيط السياسات الترابية بعين مالية واقتصادية.
بروفايل محمد سمير التازي يجسد هذا المنطق الجديد. فهو إداري مالي،تكنوقراطي الملامح، يفهم منطق الاستثمار العمومي، ويعرف كيف يرشد الجماعات في استغلال مواردها بطريقة ناجعة، ومن هذا المنطلق، فإن تعيينه ليس فقط إشارة سياسية، بل هو تحول بنيوي في تموضع وزارة الداخلية داخل النسق التنموي المغربي المقبل على أوراش تنموية كبرى خاصة في الأقاليم المغربية الجنوبية و كذا المدن المحتضنة للمونديال .
وعليه ، وزارة الداخلية في صيغتها الجديدة لم تعد تكتفي بلغة السلطة، بل ستتحدث بلغة المال ، وهذا التعيين الجديد (محمد سمير التازي ) يجسد هذا الانتقال: من وزارة حفظ النظام العام والترابي إلى وزارة للتنمية والحكامة الترابية، وبين تنزيل مشروع قانون الجبايات وتنزيل مشروع الجهوية الموسعة، تقف الداخلية اليوم في قلب المشروع التنموي، تستبدل السلطة بالآلة الحاسبة، والمراقبة بالمواكبة، والسلطة بالشراكة.
وهذا يحيلنا إلى سؤال جوهري : دور النخب السياسية في مواكبة التحول ؟
هذا التحول المؤسساتي العميق يفرض على الأحزاب السياسية، أن تعيد النظر في أدوارها ومقارباتها في منح التزكيات الإنتخابية ، فالمرحلة الجديدة أصبحت تتطلب كفاءات سياسية قادرة على فهم لغة المال والحكامة، والتفاعل الإيجابي مع الدينامية الجديدة لوزارة الداخلية، فنجاح هذا المسار يمر حتما عبر نخب تجيد التخطيط، تتقن لغة الإقتصاد، وتؤمن بالتنمية المستدامة كأفق للممارسة السياسية .
بذلك، يصبح الإصلاح المقبل مشروعا مشتركا بين الدولة والنخب السياسية،حيث السلطة تُنتج القيمة الإدارية و القانونية ، والنخب السياسية تُترجمها إلى واقع ملموس.