
عبد الكريم علاوي- في أعالي جبال أزيلال، حيث الطريق وعرة والمطالب مُهملة، تحوّل خزان ماء شاهق في جماعة أولاد يوسف إلى منبر صامت لصوت مُتعب.
رجل في الأربعينات، ظلّ معتصما على قمته لأكثر من أسبوعين، يلوّح بحياته لا عبثا، بل احتجاجًا على ما اعتبره ظلما في واقعة وفاة والده الجندي المتقاعد.
لكن الصرخة التي ظلّت معلقة في الهواء انتهت بفاجعة.. بإلقاء نفسه، بعدما تحوّلت المأساة إلى جريمة، إثر قيامه برمي عنصر من الوقاية المدنية.
لن نُبرّر الفعل. العقوبة من جنس الجرم، ولا مجال للتسامح مع اعتداء على حياة أي إنسان، فبالأحرى عنصر من عناصر الإنقاذ.
لكن، هل نُسائل فقط اليد التي دفعت، أم أيضا العيون التي أغمضت، والآذان التي صُمّت عن صراخ دام لأيام وليال!؟
القصة لا تبدأ فوق “شاطو” أولاد يوسف، بل من سنوات طويلة من التهميش الذي يسكن الهامش. أيت بوكماز ومسيرة بني ملال الأعمق، حملت لعقود علامات إنذار اجتماعي واضحة: طرقات قاتلة، منحدرات تحصد الأرواح، غياب مرافق الحياة، وموت بطيء لطموحات الشباب. من المسؤول عن عدم تحويل كل هذه الإشارات إلى أجندة عمل تُنقذ ما يمكن إنقاذه؟
كيف يُعقل أن يعتصم مواطن فوق خزان مائي لأكثر من أسبوعين دون مفاوض، دون مستمع، دون محاولة جادة لاحتوائه قبل أن تنقلب المأساة إلى جريمة؟ أليس الصمتُ هنا شريكا في ما وقع؟
الواقعة تضع الجميع أمام المرآة: السلطة الترابية التي لم تُبادر، المنتخبون الذين صمتوا، الفاعلون المحليون الذين استراحوا إلى “المألوف”، والإعلام الذي لم يُشعل ما يكفي من الأضواء حول القضية حتى فات الأوان.
الأصل في المشكل ليس جنائيا بل بنيويا. ليست مأساة فرد، بل مرآة لأزمة جماعية. والردّ على هذه المأساة لا يجب أن يكون فقط بتكييف قانوني للجريمة، بل بتكييف سياسي وتنموي لأسبابها. لأن تجاهلها، أو اختزالها في “ملف أمني”، ليس فقط جريمة في حق العدالة الاجتماعية، بل تمهيد لانفجارات قادمة.
على الفاعل الترابي والسياسي أن يلتقط الإشارة، ويعيد ترتيب الأولويات. لا أحد يطلب المستحيل: فقط مستشفى قريب، طريق لا تقتل، مركز ثقافي لصقل الموهبة، ومسؤول محلي لا يغيب حين يُعلّق المواطن نفسه في الهواء ليُسمَع.
لا تجعلوا الأزمة القادمة من أيت بوكماز تُصبح كرة لهبٍ في ملعب الصراعات السياسية، ولا تدفعوا المغرب العميق إلى الصراخ من فوق “شاطوهات” أخرى.