تمكين الشباب اليوم قبل الغد

د. مصطفى تاج-في زمن التحولات الاجتماعية والتكنولوجية المتسارعة، والتحديات الاقتصادية والثقافية المتزايدة، العالمية منها والوطنية، وفي زمن يرفع المغرب فيه شعار الدولة الاجتماعية وينخرط جديا في تنزيل أوراش الحماية الاجتماعية، واللامركزية الإدارية، والجهوية المتقدمة، وتأهيل البنيات التحتية… لم يعد من المقبول التعامل مع فئة الشباب ككتلة انتخابية صامتة أو كديكور ديموغرافي في الخطابات السياسية أو الأنشطة والبرامج الحزبية. خصوصا وأن الشباب المغربي يشكل اليوم أكثر من مجرد فئة ديموغرافية واسعة، وأكثر من مجرد ديكور أو صفوف مستوية لأخذ الصور برفقتهم… إنهم طاقة مجتمعية دينامية تمتلك من الوعي، والمعرفة، والقدرة على الابتكار ما يجعلها فاعلا رئيسيا في عمليات التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لقد أصبح من الضروري الاعتراف بقدرات الشباب وبحقهم في المشاركة الفعلية في صياغة السياسات العمومية وتطبيقها، لأن المواكبة الفعلية لمبادرات الشباب تعني توفير التكوين، ودعمهم مؤسساتيا، وتشجيعهم على صنع مشاريعهم الخاصة وتحقيق أحلامهم عبر تيسير مساطر إنشاء المقاولات والشركات لفائدتهم، والزيادة في مناصب الوظائف العمومية، وإخراج المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي وضمان فضاءات أكثر وأكبر للتعبير والمشاركة، وتمكينهم من مراكز القيادة داخل الأحزاب السياسية التي ينتمون إليها. وهي مسؤولية جماعية للدولة، والأحزاب والمجتمع المدني، والنخب الوطنية والمحلية.
فشباب اليوم لم يعد يريد أن ينظر إليه باعتباره قضية تستدعى حلولا فوقية، بل يريد أن ينظر إليه بوصفه قوة اقتراحية وتنفيذية قادرة على المساهمة في بلورة السياسات العمومية، وتقديم بدائل واقعية تستجيب لتحديات العصر. ولعل الشباب المنخرط في العمل الحزبي والجمعوي يبقى هو أقرب الشباب إلى هذا الطرح، حيث تزداد إلحاحية إدماجهم في منظومة القرار، خصوصا وأنهم عبروا سلفا بانخراطهم في النظام الحزبي والمدني عن إرادة المشاركة وإرادة الفعل. وهم بذلك يشكلون مرآة لبقية الشباب الغائب أو المغيب عن العمل المدني أو الحزبي.
وتزداد إلحاحية تمكين الشباب المتمرس في العمل الجمعوي والعمل الحزبي على وجه الخصوص، في ظل تراجع الأدوار التقليدية للأحزاب والنقابات كوسائط وواجهات للتأطير والتأثير، حيث تظهر الحاجة إلى نخب سياسية ونقابية ومدنية جديدة، تشتغل في الميدان، تجيد الإنصات، وتؤمن بأن قضايا الثقافة والتشغيل والتعليم والتكوين والبيئة والإبداع والمواطنة هي أولويات لا شعارات. تحت أرضية أن ما حك جلدك مثل ظفرك، خاصة وأن القاعدة السيكولوجية تبين لنا بأن الأقرب لفهم حاجيات الشباب والدفاع عن قضاياهم هم الشباب أنفسهم.
إن الشباب ليسوا فقط مستقبل الوطن، بل حاضره أيضا. وإعادة الاعتبار لهم كقوة اقتراحية وتنفيذية يقتضي تغييرا في عقليات القادة والزعماء السياسيين وتحولا في البنية الثقافية للمؤسسات، وتشجيع نماذج القيادة الشابة، وإرساء عقد اجتماعي جديد يقوم على الثقة، والتشاركية، والعدالة المعرفية والجيلية في صناعة القرار. فالعمل الحزبي لا يكتمل بدون لمسات شبابية، والقيادة الحزبية بحاجة ماسة إلى نفس شبابي يجدد فيها الروح، بل أكثر من ذلك، يمكن الحسم بأنه لا ديمقراطية بدون شباب، ولا تنمية بدون أفكارهم.
هكذا، تبرز الحاجة الملحة لإعادة الاعتبار لأدوار الشباب داخل الأحزاب السياسية، ليس فقط كفاعلين محتملين في المستقبل، بل كقوة دينامية راهنية قادرة على تجديد المشروع الحزبي، وابتكار حلول واقعية لقضايا المجتمع.
ذلك أن إعطاء الأولوية لشباب الأحزاب لم يعد ترفا تنظيميا، بل خيارا استراتيجيا لضمان الاستمرارية والفعالية السياسية. كما أن تفعيل مبدإ الأولوية للشباب داخل الأحزاب هو شرط لبقاء هذه الأخيرة فاعلة، وقادرة على التجديد والإقناع، وعلى ملامسة هموم المجتمع. لأن الشباب ليس فقط حاملا للطموح، بل هو شريك في بلورة الرؤية، وفي قيادة التغيير من داخل المؤسسات الحزبية. ولأن أي حزب لا يضع شبابه في صلب استراتيجيته، سيظل يشتغل بعقلية الماضي في زمن المستقبل.
وبالتركيز على الواقع الحالي لأحزابنا السياسية، ورغم أن الجميع يفتخر بالآباء المؤسسين للفكرة الحزبية المغربية، الذين كان جلهم عبارة عن شباب، أسسوا حزب الاستقلال وأنشأوا جيش التحرير ووقعوا وثيقة المطالبة بالاستقلال، وقاوموا وفاوضوا المستعمر، وبذلوا الجهد من أجل ذلك، ومن أجل بناء المغرب المستقل.
إلا أن حضور هذا المكون المهم في السياق الحالي داخل منظومة الأحزاب المغربية يثير العديد من التساؤلات، حيث يلاحظ ضعف تمثيليته في مواقع القرار، ومحدودية تأثيره في توجهات التنظيمات الحزبية. وإذا كان الخطاب السياسي الرسمي يدعو إلى إشراك الشباب، فإن الممارسة تكشف عن فجوة بين الخطاب والفعل. وتزداد أهمية هذا النقاش إذا ما قورنت التجربة المغربية ببعض التجارب الدولية، بما فيها تجارب تلك الدول التي كانت إلى الأمس أدنى مرتبة منا في سلم الاقتصاد العالمي، والتي نجحت في دمج الشباب في الحياة السياسية والحزبية.
إن إدماج وتمكين الشباب في الحياة الحزبية المغربية لم يعد خيارا ظرفيا، بقدر ما هو ضرورة استراتيجية لتجديد الفعل السياسي وتعزيز المسار الديمقراطي. والاستفادة من التجارب المقارنة تبرز أن التمكين الفعلي للشباب يبدأ بإصلاح داخلي للأحزاب، يتجاوز منطق التزيين الرمزي إلى إشراك جوهري في القرار والبناء السياسي، وهو ما يشكل مدخلا رئيسا لبلورة نخب سياسية جديدة حاملة لقيم الكفاءة والمصداقية والتغيير.
هذا المقال لا يبتغي إلقاء اللوم على أحد، بقدر ما هو صرخة أخلاقية وسياسية في وجه التوظيف الانتهازي للشباب. إنه دعوة لإعادة صياغة العلاقة بين القيادة والقاعدة، بين النخبة والأجيال الصاعدة، على أساس المسؤولية، والمرافقة الفعالة، والعدالة الاجتماعية. فالشباب لا ينتظرون الشفقة أو التوجيه الفوقي، بقدر ما يتطلعون لمبادلة جهودهم بالمزيد من الاحترام، والدعم، والتمكين في إطار شراكة تضمن ربط الماضي بالحاضر والمستقبل. ورحم الله زعيما توجه ذات لقاء تنظيمي لشباب حزبه مخاطبا إياهم: “الحزب دونكم فخذوه