24 ساعةسلايدرسياسةمجتمع

المنصوري بنسعيد وكودار .. صراع بين الفكر السياسي والانتخابي

مقال تحليلي- تعد الأحزاب السياسية من أبرز مكونات البناء الديمقراطي في الدول الحديثة، إذ تضطلع بوظائف استراتيجية تتجاوز التمثيل الانتخابي إلى تأطير المواطن، وصياغة الرؤية المجتمعية، وضمان الوساطة المؤسساتية بين الدولة والمجتمع، وفي السياق المغربي ومع ما يشهده المحيط الإقليمي من اضطرابات جيواستراتيجية معقدة، وتصاعد التهديدات غير التقليدية، بالإضافة إلى متغيرات الجبهة الداخلية التي فرضتها تحديات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، تبرز الحاجة الملحة إلى تجديد دور الأحزاب وتعزيز نجاعتها الوظيفية لتواكب دينامية الدولة وتستجيب لانتظارات المواطن.

لقد أكد جلالة الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة، أن المغرب بحاجة إلى نخب سياسية حقيقية قادرة على مواكبة التحول التنموي والارتقاء بالفعل الحزبي من منطق الفكر الانتخابي إلى منطق تحمل المسؤولية التاريخية وهو ما يفرض على الأحزاب أن تتجاوز منطق الصراع على المقاعد نحو بلورة مشاريع سياسية مستندة إلى رؤية استراتيجية تنهل من ثوابت الدولة وتتماهى مع توجهاتها الكبرى في مجالات الحوكمة، العدالة الاجتماعية، والتنمية المجالية.
وفي هذا الإطار، تبرز داخل المشهد الحزبي المغربي نقاشات حيوية تتعلق بهوية الأحزاب، وطرق اشتغالها، وتركيبة نخبها، خصوصا داخل الأحزاب ذات الامتداد الوطني الواسع، والتي ينتظر منها أن تلعب أدوارا ريادية في التأسيس لمرحلة سياسية جديدة، ومن بين هذه الأحزاب يشكل حزب الأصالة والمعاصرة نموذجا لقراءة هذا التحول، من خلال التوتر القائم بين تيارين متباينين في الرؤية والوسيلة: تيار إصلاحي تقوده فاطمة الزهراء المنصوري رفقة المهدي بنسعيد، يسعى إلى الانخراط في المشروع الوطني برؤية عقلانية ومنسجمة مع الدولة، وتيار آخر يميل إلى منطق السوق الانتخابي وتدبير المواقع من زاوية القوة المالية والنفوذ المحلي.

ففي خضم تزايد الحاجة الوطنية إلى أحزاب قادرة على لعب أدوار استراتيجية في البناء الديمقراطي وضمان استقرار الجبهة الداخلية، تقدم فاطمة الزهراء المنصوري ومعها المهدي بنسعيد نموذجا إصلاحيا يسعى إلى إعادة الاعتبار للعمل الحزبي كممارسة مؤسساتية منسجمة مع اختيارات الدولة واستراتيجياتها الكبرى، ومن جهة ثانية، يبرز تخطيط سمير كودار رئيس قطب التنظيم ، الذي يتبنى مقاربة براغماتية تغلب عليها منطق المقاعد الانتخابية ، حيث يراهن على شبكات رجال الأعمال والأعيان بما يعيد إنتاج الأعطاب الحزبية التقليدية .

إن ما يميز رؤية فاطمة الزهراء المنصوري والمهدي بنسعيد هو سعيهما لبناء حزب حديث قادر على التموقع الاستراتيجي داخل المشروع الوطني، استنادا إلى الكفاءة، والانفتاح على النخب الشابة، وتعزيز مشاركة النساء، وتكريس سياسة القرب من المواطن، هذه الرؤية الشاملة تتماهى بوضوح مع اختيارات الدولة، وتنسجم مع فلسفة النموذج التنموي الجديد، الذي يجعل من الأحزاب إحدى روافع التنمية ووسائل ترسيخ الثقة في المؤسسات، فليست السياسة في نظرهما مجرد سباق انتخابي وإنما مسؤولية تاريخية اتجاه المجتمع والدولة.

وما يعزز صواب هذه الرؤية ويمنحها عمقا استراتيجيا وتنظيميا، هو انسجامها التام وتماهيها الفكري مع اختيارات عدد من قيادات الحزب نذكر منهم أحمد اخشيشن الذين يتقاسمون قناعة راسخة بأن السياسة يجب أن تمارس كأداة نبيلة لبناء الوطن، لا كوسيلة لتحقيق الامتيازات، وعليه تشكل المنصوري معية بنسعيد قيادة إصلاحية داخل الحزب، تتبنى مشروعا واضح المعالم، يقوم على تجديد النخب، وربط العمل السياسي بمشروع تنموي وطني، يتجاوز منطق الانتخابات الموسمية نحو سياسة عمومية مرتبطة بانتظارات المواطنين وتطلعات الوطن.

في المقابل، يقدم سمير كودار ومعه العربي المحرشي نموذجا سياسيا مختلفا قائما على حسابات انتخابية صرفة، ترتكز على توظيف الأعيان والمقاولين الكبار، بصفتهم أدوات تعبئة انتخابية تمتلك ما يكفي من النفوذ المتنوع لتأمين النتائج الانتخابية، هذا المنطق وإن كان قد أثبت نجاعته في بعض المحطات إلا أنه يعكس اختزالا خطيرا للسياسة المغربية في بعدها الانتخابي، وابتعادا عن الوظيفة التأطيرية والتربوية للأحزاب، فحين تصبح معايير التزكية الانتخابية لدى الأحزاب هي عدد أرقام الرصيد البنكي وليس مستوى الوعي السياسي والكفائة العلمية، تفرغ الديمقراطية من محتواها، وتحول المؤسسات المنتخبة إلى مجال لإعادة إنتاج الثروة بعيدا عن خدمة الصالح العام.
يبدو أن هذا التصادم بين الفكرين، فكر إصلاحي استشرافي يستند إلى مواكبة الرؤية الوطنية الكبرى ويقوده ثنائي المنصوري وبنسعيد، وفكر انتخابي يكرسه تخطيط سمير كودار، مرشح للتفاقم ونحن على أعتاب الاستحقاقات التشريعية لسنة 2026، حيث ستشكل هذه المحطة اختبارا حاسما لهوية الحزب وخياراته المستقبلية، فالحزب مرشح بقوة في ضوء التحولات السياسية القائمة لقيادة حكومة تتزامن مع تنظيم المغرب لكأس العالم 2030، ما يجعله في قلب مرحلة استراتيجية دقيقة تتطلب أكثر من أي وقت مضى حزبا مسلحا بالكفاءات الشابة المؤهلة، من أطر ومهندسين وخبراء في ميادين التخطيط، التعمير، والأشغال العمومية، وهي القطاعات التي ستشكل عصب الأوراش الكبرى المرتقبة، وتحتاج إلى نخب تمتلك القدرة على مواكبة التحديات، وتنزيل المشاريع على أرض الواقع بحس وطني وكفاءة تقنية عالية.

وإذا قلنا أن حزب البام سيقود حكومة المونديال فلا يمكن أن يستمر الحزب في الرهان على مرشحين لا حضور لهم داخل المؤسسة التشريعية، ولا ارتباط لهم بالرأي العام، خاصة في ظل احتمال بقاء حزب العدالة والتنمية في المعارضة، وهو ما يعني معارضة شرسة قائمة على التعبئة الميدانية والرمزية، ولعل ما وقع مؤخرا من استهداف رمزي لفاطمة الزهراء المنصوري وغياب رد فعل قوي من أعضاء المكتب السياسي وبرلمانيي الحزب -إلا البعض منهم-، يكشف عن قصور في الالتفاف التنظيمي والتواصل السياسي الداخلي، ويطرح سؤالا جوهريا حول جاهزية الحزب لتحمل مسؤولية القيادة في مرحلة وطنية مفصلية تتطلب صلابة في البنية الحزبية وتماسكا في الخطاب السياسي.

في خضم هذا التباين بين الفكرين، يبرز اسم هشام المهاجري في لجنة الإنتخابات كلاعب سياسي محنك يسعى إلى التوفيق بين المرجعيتين الفكريتين، عبر محاولة رسم مسار وسط يبقي على التوازن بين منطق الكفاءة والانتماء الميداني، وبين منطق التعبئة الانتخابية التقليدية، حيث من جهة يراهن على تثبيت مجموعة من البرلمانيين الذين أثبتوا جدارتهم داخل المؤسسة التشريعية ونجحوا في بناء جسور تواصل فعال مع المواطنين ما يجعلهم نماذج لمعادلة نادرة تجمع بين الفعالية البرلمانية والقرب السياسي الحقيقي من نبض المجتمع، ومن جهة أخرى لا يغفل أهمية الحفاظ على شبكات الأعيان المحلية التي تضمن الامتداد الانتخابي للحزب في عدد من الدوائر.

في ضوء ما سبق، يتضح أن حزب الأصالة والمعاصرة يواجه اليوم لحظة مفصلية، لا فقط على مستوى رهانات الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وإنما أيضا على مستوى بناء هوية سياسية قادرة على الاستجابة لتحولات السياق الوطني والدولي، وما تفرضه من إعادة نظر جذرية في منطق الفعل الحزبي ومضمونه، كما عليه أن يعيد ترتيب بيته الداخلي على أسس جديدة: تثبيت خيار الكفاءة وتجديد نخب مؤسسات الحزب بوجوه شابة تمتلك المعرفة والجرأة و نظافة اليد، إدراكا بأن أي انزلاق أخلاقي جديد قد يتحول إلى نقطة انهيار داخلي تهدد ما تبقى من رصيده الرمزي والسياسي، وتضع مصداقيته على المحك أمام الرأي العام .

حزب الأصالة والمعاصرة اليوم أمام خيار تاريخي: إما أن يتحول إلى قوة سياسية مسؤولة تعكس إرادة الملك وتستجيب لتوحيهات جلالته في بناء مغرب الكفاءة والنزاهة، أو أن يختزل مجددا في تراكتور إنتخابي، والمفارقة أن مصير الحزب في هذه المرحلة لن تحسمه صناديق الإقتراع ، وإنما نوعية من يملؤون مقاعد قبة البرلمان ، ونوعية المشروع الذي يحمله الحزب أمام المواطنين والنخب التي ستستقبل ضيوف المونديال القادمين من مختلف القارات، والمتحدثين بلغات متعددة… يعني مغرب الغد سيدبر بمنطق الكفاءة وليس بشيء آخر .. وعليه فمعايير الانتقاء والتمثيلية داخل حزب الأصالة والمعاصرة أكثر من مجرد شأن داخلي، وإنما قضية متصلة بصورة المغرب ومكانته أمام دول العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى