
اكونتر سعيد-نعم، بدون أي مزاح أو استعارة، لو لم تكن لدي دراجة نارية مخالفة لما جاءت به “نارسا”، لما أصبحت محامياً. على الأقل، لما تمكنت من اجتياز امتحان الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة لسنة 2015، الذي نُظم في عهد السيد وزير العدل آنذاك، مصطفى الرميد.
ففي صباح الأول من مارس 2015، استيقظت متأخراً من النوم، ولم يتبقَ على موعد الامتحان سوى عشرين دقيقة، فقط عشرون دقيقة! كنت حينها أقطن بحي المسيرة 1 في مراكش، بينما كان الامتحان سيُجرى بكلية الحقوق بحي الداوديات.
أذكر أنني أكملت ارتداء ملابسي في سلم المنزل، وبسرعة خاطفة امتطيت دراجتي النارية المباركة، المسماة “C90″، وانطلقت بها بسرعة جنونية بلغت أحياناً 90 كيلومتراً في الساعة. وعندما وصلت إلى الكلية، وجدت رجال الأمن المشرفين على حماية مركز الامتحان وهم بصدد إغلاق الباب.
رميت دراجتي المباركة “C90” في الشارع، ودخلت راكضاً، مائلاً بجسمي لأتمكن من التسلل عبر الفتحة الضيقة بين دفّتي الباب وذراع الشرطي الذي كان يهمّ بإغلاقه. وهكذا، وبصعوبة بالغة، تمكنت من الدخول إلى مركز الامتحان في اللحظات الأخيرة.
في الداخل، طلبت من موظف نبيل في الكلية يُدعى “رشيد” أن ينقذ دراجتي ويضعها في مكان آمن، فاستجاب لطلبي فوراً. سأظل مديناً له ما حييت.
وبعدها أُغلقت الأبواب، وجلسنا ننتظر في القاعات حتى تمّت طباعة موضوع الامتحان، ويُحكى أن السيد وزير العدل هو من أفتى شخصياً السؤال على مراكز الامتحان، ولم يُطبع إلا ونحن ننتظر داخل القاعات. وقد كان عبارة عن نازلة مشؤومة بين “عاصي” و”مرة”… والعياذ بالله!
أما عن دراجتي المباركة “C90″، فأؤكد أنني اشتريتها جديدة ولم أقم بتعديلها تقنياً أو إجراء أي تحسينات ميكانيكية عليها. لقد كانت مباركة، سريعة وقوية من مصدرها. وبطبيعة الحال، عندما تصل إلى سرعتها القصوى، فإنها لا تقبل أي أوامر بالتوقف الفوري، لا من الفرامل ولا من السائق. تبقى مندفعة بسرعة شامخة إلى أن تتسبب في كارثة… والعياذ بالله.
ولشدة سرعتها، صار المغاربة يصفون أي شخص نشيط أو مسرع في العمل بـ “C90″، ونظراً لخطورتها، ولأسباب تتعلق بالسلامة، فقد رفضت العديد من الدول التي تحترم نفسها ومواطنيها دخول هذه الدراجة النارية ومثيلاتها إلى أراضيها.
أما للوقوف على حجم الكوارث التي تتسبب فيها “C90” ومثيلاتها، فيكفي زيارة المستشفى الجامعي محمد السادس بمراكش، حيث يوجد قسم خاص يُعرف بين العامة باسم قسم”C90″، يرقد فيه ضحايا هذه الدراجة. ويمكن التأكد أيضاً من هذا الواقع الأليم بزيارة خفيفة للمحكمة الابتدائية، وتحديداً قسم الجنحي سير بمحكمة باب دكالة أو قسم المسؤولية التقصيرية بقصر العدالة بسيدي يوسف بن علي. إنها طاحونة حقيقية لإنتاج حوادث السير.
وعودة إلى دراجتي المباركة “C90″، فقد سُرقت مني والحمد لله في السنة الأولى من التمرين بمهنة المحاماة، خلال فصل شتاء قارس، حيث تركتها أسفل العمارة “ونسيت نسورتها”. فجاء لص محترف، من أولئك الذين يشمون رائحة أي دراجة نارية “مامسورتاش”، فسرقها. اضطررت حينها إلى شراء سيارة صغيرة ، وقال لي أخي عبد العزيز الملقب بـ”عزو” مازحا:
“اقتاعن ناخ إمتشاتن نبابنسن سوفغنك اسميت تاكوت”
أي: بفضل اللصوص الذين سرقوا دراجتي النارية، تخلّصت من البرد القارس والشتاء ودخلت إلى دفء السيارة ونعيمها.
قد تكون سرقة تلك الدراجة خسارة، لكنها بالمقابل كانت بداية جديدة… تمامًا كما كانت في صباح امتحان المحاماة، حين كانت سببًا في بداية مسار مهني كامل.
أما بخصوص مذكرة “نارسا” المثيرة للجدل هذه الأيام، فلا بد أن نطرح سؤالاً: لماذا يُقبِل المواطنون على شراء دراجة “C90” ومثيلاتها، رغم علمهم بخطورتها؟
الجواب بسيط جداً: لأنها رخيصة، وسريعة، وتفي بالغرض، وهي وقطع غيارها متوفرة في كل زاوية، لدرجة أنه يمكن شراؤها من عند بقال الحي، بل اكثر من ذلك لأن المواطن هنا ضحية وضع اقتصادي هش، وبُنية نقل عمومي متأزمة، وخيارات محدود.
لذا، فالمواطن لا يُلام. بل اللوم يجب أن يوجه إلى من سمح بدخول هذا النوع من الدراجات، والدراجات الصينية الأخرى التي تشوّه المدن وتُزهق الأرواح.
لكن، هل هذا يعني أن طريقة تدخل “نارسا” سليمة؟ طبعاً لا، وألف لا.
فالتدخل يجب أن يتم عبر مراحل مدروسة. أرى أن المرحلة الأولى يجب أن تبدأ بمنع استيراد هذه الدراجات وأجزائها. ثم تعويضها بدراجات أكثر أماناً وسلامة.بعد ذلك، تتم دعوة المواطنين الذين يملكون الدراجات المستهدفة إلى تغييرها، مقابل تخفيضات وامتيازات مالية، تماماً كما فعلت الدولة عند تجديد أسطول سيارات الأجرة، ونجحت في ذلك.
كما يجب الاعتناء بالنقل العمومي، فمدينة مثل مراكش لا تتوفر على ميترو او ترامواي، هو أمر غير مقبول تماما .
أما ما قامت به “نارسا” فهو ينافي مبدأ التطبيق العادل للقانون الذي جاء به الدستور المغربي لسنة 2011.
والله أعلم،
مع كامل التحفظ
* محام بهيئة المحامين بمراكش دكتور في الحقوق