
يعد الوفاء بالالتزامات الاستراتيجية والمصداقية السياسية من أهم العناصر التي تؤسس للثقة بين الدول، وتشكل العمود الفقري لتحالفات طويلة الأمد، غير أن طبيعة النظام الدولي المعاصر الذي يتسم بالتنافس الاستراتيجي والتحالفات المؤقتة تجعل هذه القيم عرضة للاختبار الدائم، إذ قد لا يلق الالتزام أو الدعم الذي تقدمه دولة ما لدولة أخرى التقدير أو الاعتراف المنشود.
يبرز المغرب في هذا السياق كحالة نموذجية لدولة تجمع بين القدرة الدبلوماسية والفاعلية الأمنية والالتزام الإنساني، حيث أسهم عبر عقود في دعم الاستقرار الإقليمي وتقديم مساعدات إنسانية وتنموية وتعزيز الأمن الخليجي والأوروبي، مسجلا بذلك حضورا فاعلا في حماية مصالح شركائه الاستراتيجيين، ورغم ذلك تظهر المفارقة في أن بعض هذه الدول التي استندت إلى المغرب في أوقات الأزمات فأطعمها من جوع وآمنها من خوف، صارت اليوم تستهدفه بآليات غير مباشرة ضمن نسق الحرب الناعمة من خلال الإعلام الرقمي والحملات الرمزية، وهو ما يبرز هشاشة التحالفات المعاصرة أمام الأطماع الإقتصادية.
لن ينسى التاريخ الدور الكبير الذي قام به المغرب خلال مرحلة التأسيس الأولى لدولة الإمارات، حين ساهم في وضع اللبنات الأولى لمؤسساتها العسكرية والأمنية والمالية، وهي مساهمة رسخت الثقة الاستراتيجية بين البلدين، كما قدمت الأجهزة الأمنية المغربية دعما حيويا في حماية الأمن الإماراتي من مختلف التهديدات الخارجية خاصة بعد الثورة الإيرانية سنة 1979 حيث وفر المغرب خبراته الأمنية والاستخباراتية لتعزيز أمن الخليج ، كما أكد دائما أن أمن الخليج من أمن المغرب، هذا التراكم التاريخي في التعاون الأمني والسياسي يعكس عمق الشراكة الأخوية التي لم تقتصر على بعد ظرفي أو مصلحي ولكن تأسست على رؤية استراتيجية بعيدة المدى، كل هذا يسائل دولة الإمارات حول مدى انسجام بعض المواقف المستجدة مع هذا الإرث التاريخي العميق، لاسيما حين يتعلق الأمر باحتضان كيانات إنزاحت نحو المرجعية الثورية التخريبية في بعدها الإديولوجي الذي يهدد إستقرار الدول.
رغم حملات الاستهداف الإعلامي القطري ضد المملكة المغربية منذ مطلع الألفية الثالثة، حافظ المغرب على موقفه الثابت والمسؤول اتجاه أشقائه في دولة قطر، حيث تجلى هذا الالتزام في تقديم الدعم الإنساني الحيوي خلال الأزمة الخليجية سنة 2017 الذي لم يكن مجرد تلبية للحاجة المادية وإنما رسالة أخوية ورؤية استراتيجية تؤكد عمق العلاقة بين البلدين وأهمية استقرار المنطقة الخليجية، كما امتد التعاون إلى المجال الأمني حيث شاركت الأجهزة المغربية بخبرتها في تأمين فعاليات كأس العالم 2022، وكل هذا يعكس قدرة المغرب على الجمع بين الالتزام الإنساني والكفاءة الأمنية، مبرهنا بذلك على أن الوفاء الأخوي و الرؤية العميقة للمملكة المغربية الشريفة لا تتأثر أمام أي حملات مضللة أو محاولات تشويه.
على الصعيد الأوروبي، برز المغرب كشريك استراتيجي لدول أوربا في مواجهة التهديدات الإرهابية ومن بين هذه الدول الدولة الفرنسية، لا سيما خلال الهجمات التي شهدتها باريس عام 2015، حيث أسهمت المخابرات المغربية بخبرتها الاستخباراتية الدقيقة والحاسمة في تعقب خلايا تنظيم الدولة الإسلامية، مكنت بذلك السلطات الفرنسية من تحييد خطرها – فلولا هذه المعلومات التي وفرت الاستخباراتية المغربية لكانت جريدة لوموند لا تزال منشغلة بنشر صور أشلاء الضحايا وتوثق حجم الكارثة هذا إن لم يكن صحافييها من بين الضحايا – ولم يقتصر التعاون بين البلدين على تبادل المعلومات بل إرتقى إلى التنسيق المستمر بين الأجهزة الأمنية وتبادل الخبرات في مجالات مواجهة التطرف والتهديدات الإرهابية مما عزز قدرة فرنسا على حماية المدنيين واستقرار دولتها ، وبالمقابل رسخ مصداقية المغرب وفاعليته كفاعل إقليمي ودولي يمكن الاعتماد عليه في ملفات الأمن والاستقرار.
لقد شكل موضوع الاستهداف المتكرر الذي يتعرض له المغرب محور إهتمام العديد من المحللين السياسيين والأكاديميين، الذين حاولوا فهم أسبابه وخلفياته وأهدافه، غير أن الفهم الجيد لهذه الظاهرة يقتضي الرجوع إلى الخطب الملكية التي تتميز ببعد استباقي ورؤية استشرافية، فهي تشكل مرجعا أساسيا وشاملا لمؤسسات الدولة في استباق المخاطر وإدارتها قبل وقوعها، إذ لا تقتصر الخطب الملكية على المعالجة اللحظية للأزمات ولكن ترسم رؤية الدولة بعيدة المدى، كما تحدد أولويات السياسة الوطنية وتوضح منهجية التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية بطريقة متكاملة.
وفي هذا السياق، نستحضر خطاب عاهل البلاد عند افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة للولاية التشريعية التاسعة، حيث أكد جلالته على حقيقة لا يمكن تجاهلها اليوم، وهي وجود جهات تحسد المغرب على إنجازاته ومساره السياسي والتنموي وعلى أمنه واستقراره وعلى قوة التلاحم الوطني واعتزاز المواطنين بوطنهم، هذا الخطاب الملكي الصادر قبل نحو 11 عاما كان بمثابة توجيه ملكي لفهم ديناميات المنافسة الإقليمية والدولية المستقبلية، وما تفرضه من ضرورة التحلي باليقظة ووضع استراتيجيات استباقية مع اعتماد مقاربة شاملة لإدارة المخاطر والتحديات الوطنية بما يضمن استدامة الاستقرار وتعزيز القدرة على التعامل مع المتغيرات الإقليمية والدولية.
نعم، إن الأمن والاستقرار الذي ينعم به المغرب هو أساس التنمية كما أكد جلالة الملك في خطاب العرش المجيد بمناسبة الذكرى 26 لاعتلاء جلالته عرش أسلافه المنعمين حيث قال جلالته : فما حققته بلادنا لم يكن وليد الصدفة، وإنما هو نتيجة رؤية بعيدة المدى، وصواب الاختيارات التنموية الكبرى، والأمن والاستقرار السياسي والمؤسسي، الذي ينعم به المغرب.¤
إن هذا المعطى يوضح حقيقة مهمة هو أن الاستهدافات الأخيرة والمتكررة التي طالت رموز مؤسسات الدولة وفي مقدمتهم السيد عبد اللطيف حموشي المدير العام لمديرية الأمن الوطني و المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني لم يكن مقصود بها كشخص بحد ذاته وإنما الغاية منها هي استهداف رمزية المؤسسة الأمنية المغربية ودورها الحيوي كضامن للاستقرار الوطني وفاعل أساسي في تعزيز التنمية، مما يؤكد على الإدراك الجيد للجهات الخارجية المعادية للمغرب أهمية الأمن والاستقرار السياسي والمؤسسي الوطني في الحفاظ على مكتسبات الدولة واستدامة التنمية.
إن الحقيقة الثابتة هي أن علاقة المغرب بهذه الدول الشقيقة والصديقة ثابتة ومترسخة ، إذ يدرك عقلاؤها جيدا أن أمنهم واستقرارهم مرتبط أساسا بأمن واستقرار المغرب، أما الضغوط والمناورات الأخيرة التي استهدفت بعض مؤسسات الدولة فغايتها الأساس هي إبطاء المسار التنموي الجديد والتشويش على العلاقات الاستراتيجية المتنوعة التي أقامتها المملكة المغربية الشريفة مع شركائها الدوليين القائمة على مبدأ رابح-رابح.