
إن لنا في التاريخ عبرة، وفيما يقع اليوم في الشرق الأوسط من اضطرابات وصراعات عبرة أوضح، فالأمم التي لا تتعلم من دروس الماضي ولا تأخذ العبرة من الأحداث الجارية حولها ، لا يمكن أن تحافظ على ديمومة استقرارها ، لقد أبانت الأحداث الجارية بين إيران وإسرائيل عن واقع متقلب، يظهر فيه أن الخطر الحقيقي لا يأتي دائما من الخارج، بقدر ما يتسلل من الداخل عبر شقوق صغيرة في أعمدة البيت الداخلي الناجمة عن عقوق أو سذاجة بعض أبناءه ، ومع هذه الصورة المضطربة، يتوجب علينا جميعا أن نطرح سؤالا جريئا وجوهريا، هل جبهتنا الداخلية متماسكة بما يكفي لتتحمل عواصف الأجندات الخارجية؟
في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة وتزايد حدة الأزمات الإقليمية والدولية، كما هو الحال في الحرب القائمة بين إيران وإسرائيل، لم يعد من المقبول أن تظل المجتمعات تراقب الأحداث من بعيد دون أن تعيد النظر في بنائها الداخلي، فالعالم يتغير، وموازين القوى تعاد صياغتها، وأساليب الحرب تغيرت مجملا ، والدول التي لا تحسن تحصين جبهتها الداخلية تصبح عرضة للانهيار من الداخل قبل أن تنصدم بأعداء بالخارج، والمغرب بخصوصيته التاريخية وامتداداته الإفريقية والأورومتوسطية، وعداوة جارهوبعض حساده لا يعد استثناء في هذا المشهد العام.
ففي ظل التحديات الراهنة، لا يمكن تصور جبهة داخلية صلبة دون تماسك القوى الوطنية الفاعلة، الأحزاب السياسية، بصفتها مكون أساسي في البيئة المجتمعية، فهي مدعوة لتجاوز منطق الصراع الانتخابي الضيق إلى الانتقال سريعا نحو لعب دور تأطيري حقيقي يعيد الثقة للمواطنين في العمل السياسي، مع النأي عن الصراعات العقيمة بينها و أساليب الضرب تحت الحزام و تخوين بعضها البعض، و بحثها المتزايد على امتدادات خارجية إديولوجية أو مصلحية، وبالمقابل يجب أن تعود إلى دورها الأساس الذي هو تأطير المواطنين ودمجهم الإيجابي في المجهود الوطني العام .
وإذا كان الإعلام هو المرآة التي تنعكس فيها صورة المجتمع، فإن مسؤوليته في زمن الأزمات تزداد جسامة، فالإعلام الوطني، المستقل والمهني، هو أداة أساسية لتحصين الوعي الجماعي، ودحض الإشاعات، وتعزيز الثقة بالمؤسسات، أما الإعلام السائد اليوم أكثره مسيس أو قد نجد مداد بعضه يستورد من الشرق أو الغرب ، وهنا لا نعمم بقدر ما نلفت الإنتباه إلى مسارإعلامي جديد، يساهم في التشويش والتضليل بدل التنوير الذي يخدم الصالح العام .
ويأتي المجتمع المدني كقوة ثالثة لا تقل أهمية، فهو القادر على ربط المواطن بالمجال العام، وتمثيل مصالحه، وتوفير قنوات المشاركة والوساطة الاجتماعية، لأن جمعيات المجتمع المدني الجادة والنقابات الفاعلة تشكل جسورا ضرورية بين الدولة والمجتمع، وتساهم في تخفيف الاحتقان، وتذويب الخلافات وتوجيه المجتمع نحو النظر إلى النصف الممتلئ من الكوب وليس إلى النصف الفارغ ، فبعث الأمل هو الركن الأساس في بنية استمرارية الدول .
ما يحدث مؤخرا بالشرق الأوسط من عمليات اغتيال دقيقة نفذتها إسرائيل ضد قيادات بارزة في كل من حزب الله وإيران، يعد مؤشرا قويا يجب الانتباه جيدا إليه، فالاختراق الداخلي بات حاسما في الحروب المباشرة، فالتسلل إلى المنظومات الأمنية والاستخباراتية، يكشف عن هشاشة البنية الداخلية للدول، و الدرس المستخلص هنا هو أن الدول أصبحت لا تخترق من الخارج إلا حين تتفكك من الداخل.
وهذا الأمر لم يكن وليد اليوم، فقد شهد التاريخ سقوط إمبراطوريات كبرى ليس نتيجة عدوان خارجي مباشر، بل بفعل التآكل الداخلي والانقسام وغيابالبنية الجامعة، فالإمبراطورية الرومانية الغربية لم تسقط دفعة واحدة بسبب الغزوات الجرمانية، بل نتيجة لانهيار البنية السياسية وتفشي الفساد ، كذلك الدولة العباسية، رغم اتساع نفوذها فقد تفككت تحت وطأة الصراعات الداخلية وظهور مراكز قوى مستقلة، وحتى الاتحاد السوفياتي، الذي امتلك ترسانة عسكرية هائلة، انهار من الداخل أولا وضعف الانسجام بين مكوناته القومية، بل إن إمبراطوريات مثل الدولة العثمانية عانت داخليا قبل إندثارها .
بالنسبة للمغرب الدولة الأمة، فقد استطاعت ولله الحمد طيلة 12 قرن الماضية أن تحافظ على بنية داخلية قوية ومتماسكة أساسها التلاحم الوثيق الدائمين بين العرش والشعب القائم على البيعة المستمدة من الدين الحنيف و الأعراف الخالدة ، بل تعززت هذه اللحمة في 25 عاما الماضية بالسياسة الرشيدة التي نهجها ورسخها عاهل البلاد حيث استطاع المغرب من خلالها كسب الرهانات الكبرى و رسم مستقبل أكثر ازدهارا في عصر التجاذبات الدولية ، أما مثل هذه الوقائع (أحداث الشرق الأوسط ) فهي تحفز على تعزيز المناعة الذاتية، من خلال الإلتفاف حول مؤسساتنا الوطنية، والذود عنها من كل استهداف داخليا كان أم خارجيا، وعدم الانسياق لمروجي أطروحات تضرب في مصداقية هذه المؤسسات من خلال رموزها وتستعمل في هذا نظرية دس السم في العسل، فاستمرارية الدولة من استمرارية مؤسساتها ، ثم يجب تكريس سياسة تنبني عن أحزاب تؤمن بالعدالة الاجتماعية، وضمان تكافؤ الفرص ، فالمواطن الذي يشعر بالكرامة والعدل والانتماء، هو خط الدفاع الأول عن الوطن.
إن الاستهداف المباشر التي تتعرض إليه مؤسسات الدولة من أبناءها العاقين المدعومين من أطراف خارجية، مؤشر خطيرعلى أن الوطن ككل مستهدف، وعلى أن هذه الأطراف الخارجية المعادية لوحدة وطننا سلكت هذه الطريق بعد أن لم تجد جهدا تستطيع من خلاله النيل وتفكيك البنية الداخلية لمؤسساتنا الداخلية واختراقها مع وجود أبناء بررة أوفياء لشعارنا الدائم الله الوطن الملك ، نعم إن الإستهداف الكبير الذي طال مؤسستنا الأمنية و التشهير بعبد اللطيف حموشي المدير العام للمديرية العامة للأمن الوطني يعطينا انطباعين : الأول أن المغرب مستهدف في أمنه واستقراره ، والثاني يؤكد على أن بنية المؤسسة الأمنية قوية ولله الحمد وليس فيها موطئ قدم للخونة ( ويكفي المؤسسة الأمنية فخرا الإشادة الملكية الواردة في خطاب العرش 2017) ، فالوفاء وحب الوطن والملك ميزة كل أبناءها بدون استثناء، وهذا إيمان راسخ لدى جميع المغاربة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، لهذا نجد جميع المواطنين يدا واحدة مع أمنهم و قواتهم ومؤسساتهم العمومية في جميع الأزمات التي مرت ببلادنا آخرها أزمة وباء كورونا و زلزال الحوز.
وفي سياق مهم آخر، يبرز الرهان الرقمي كأحد أعمدة الأمن الداخلي المعاصر، فقد أظهرت الاختراقات الرقمية الأخيرة وما صاحبها من تسريبات حساسة أن الحروب لم تعد تخاض فقط على الأرض، بل في الفضاء الرقمي أيضا، لذلك فإن بناء قدرات وطنية في مجال الأمن السيبراني، وتوعية المواطنين بالمخاطر الرقمية، وتعزيز البنية التحتية التكنولوجية، يعد من مقومات الحصانة الداخلية المستقبلية.
إن المستقبل ينادي الحكومة بصوت عال ، من أجل القيام بإصلاحات سريعة وعميقة في الآن ذاته، على صعيد جميع المستويات، وأخص بالذكر هناالمستوى التعليمي و المستوى الإعلامي من أجل بناء وعي جماعي (خاصة على مستوى الشباب والجالية المقيمة بالخارج ) متكامل، ناضج ومقاوم لخطابات التشكيك والتضليل ومحبط لمشاريع التفكيك و التقسيم، فترسيخ بنية مجتمعية قوية مرهون على الفهم العميق للتحولات المجتمعية الدولية الحديثة التي تنبني على الاستراتيجية الخطابية وعلى أساليب استخدام المعلومة.
… “شعبي العزيز
يبقى حجر الزاوية في الدفاع عن مغربية الصحراء. هو وحدة الجبهة الداخلية والتعبئة الشاملة لكل المغاربة، أينما كانوا للتصدي لمناورات الأعداء.”
مقتطف من خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب.